تركي السديري- من صدارة الرياض إلى صمت الظل، قصة نجاح وجحود
المؤلف: إدريس الدريس08.15.2025

في سكون مفاجئ، طفا نور المصابيح، وأُغلق المكتب، ثم انتهت الحقبة، ليختفي في غياهب النسيان.
كان تركي العبدالله السديري شخصية بارزة وملء السمع والبصر، ثم تلاشى فجأة ليصبح طي النسيان. لفّ الجريدة بذراعيه، مودعًا بذلك أكثر من خمسة عقود قضاها بين سطور الأخبار، وتحولات الأحداث، وأسرار المهنة، وبين جدران المطابع وضجيج الآلات ورائحة الأحبار.
وفجأة، ودون سابق إنذار، وضع تركي السديري قلمه جانبًا، وترك عموده الشهير "لقاء" خاليًا، وحمل أوراقه، واختار الانسحاب والتأمل، لينفض عنه غبار الضجيج والإرهاق، وليبتعد عن صخب التميز الذي لازمه خلال رئاسته لجريدة الرياض، التي شهدت انتقالاتها من حي المرقب، ثم إلى مقرها الجديد في طريق خريص، وصولًا إلى مقرها الأخير في حي الصحافة، وتواكب صعوده مع صعود الجريدة، حتى أصبحا وجهين لعملة واحدة.
يرى البعض أن تركي السديري كان متسلطًا ويميل إلى المركزية في إدارته، بينما يرى آخرون أن حزمه الإداري كان سر نجاح الجريدة واستمرارها في صدارة المشهد الصحفي.
أصاب تركي السديري في بعض قراراته، وظلم آخرين ممن تفانوا في خدمته وأحبوه، وأحسن إلى الكثيرين ممّن خذلوه وأساءوا إليه.
عُرف عن تركي السديري أنه سخي وكريم في محبته، وشديد وقاسٍ في كرهه.
رافقه في مسيرته المهنية على مدى عقود، ثلة من الزملاء ذوي القدرات المتواضعة، ولكن بفضل كرمه وعطائه، أخلصوا له ووهبوه جهودهم وطاقاتهم، ولم يغادر بعضهم الجريدة إلا إلى مثواهم الأخير، بينما بقي الآخرون حتى اليوم.
لم يغادر الجريدة في عهده إلا من ظنّوا أن أبواب الصحف الأخرى ستفتح لهم، وأنهم قادرون على التألق خارج أسوار "الرياض".
بدأ صعود جريدة الرياض يزداد وضوحًا مع تولي تركي السديري رئاسة التحرير، إلا أنه ترسخ بشكل ملحوظ – من وجهة نظري – خلال فترة تولي محمد بن عباس رئاسة تحرير جريدة الجزيرة، التي كانت حينها الوعاء الإعلاني الأول والأكثر تأثيرًا، وذلك خلال فترة خالد المالك الأولى، حيث كان يعمل إلى جواره آنذاك كوكبة من أبرز الصحفيين السعوديين مثل عثمان العمير وعبدالرحمن الراشد ومحمد التونسي ومطر الأحمدي ومحمد العوام ومحمد الوعيل وعبدالعزيز المنصور وغيرهم، إلا أن معظم هؤلاء النخبة من الصحفيين البارزين تفرقوا أو أُبعدوا عن الجزيرة بسبب خلاف مع رئيس التحرير بن عباس، مما أضعف مكانة الجزيرة تدريجيًا، لتفتح بوابة القدر والإعلان لجريدة الرياض، مما مكنها لاحقًا من استقطاب أفضل المحررين وكتاب المقالات والرأي المميزين، بالإضافة إلى نخبة رسامي الكاريكاتير المبدعين، والمصممين المتميزين وفنيي المطابع ذوي الخبرة، واستطاعت جريدة الرياض بمتابعة دؤوبة وحثيثة من رئيس تحريرها أن تحافظ على مركزها الأول، إلى أن بدأت جريدة "عكاظ" تتقاسم معها هذه المكانة وتنافسها، ثم تتفوق عليها لاحقًا.
كان لتركي السديري هيبة واضحة ومكانة مرموقة في الأوساط الرسمية والإعلامية والشعبية، وكان يتمتع بتقدير مستحق على المستويين المحلي والخليجي والعربي، وكان يمتلك قلمًا رشيقًا ولغة سلسة وعبارات معبرة، إلا أن قيمته الكتابية تراجعت في السنوات الثلاث الأخيرة من مسيرته الصحفية، وأصبح عموده الشهير "لقاء" مثار سخرية بعض المنتقدين في تويتر وغيره، ولا أعلم سببًا لذلك، فهل تتأثر لياقة الكاتب بمرور السنوات كما يحدث للاعب الكرة؟ وهل يتوجب على الكاتب أن يترقب اللحظة المناسبة للاعتزال؟ على أي حال، ربما يكون التقدم في السن، بالإضافة إلى العجلة في إملاء مقالته، أو حرصه على عدم خروج الطبعة بدون عموده اليومي، هو ما أوقعه في بعض الأخطاء الأسلوبية التي كانت محط انتقاد وسخرية البعض.
وعلى الرغم من كل شيء، سيظل تركي السديري أحد أبرز الصحفيين العرب في العقود الماضية، فقد كان صوته وقلمه وحضوره مؤثرًا في الجريدة وفي المحافل الرسمية وفي الأوساط الإعلامية، ولكن اسمه وتأثيره تراجعا فجأة ثم اختفيا، وأتذكر هنا مقولة شهيرة للراحل محمد حسين زيدان يصف فيها المجتمع الصحفي بأنه مجتمع جاحد بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، وهذا هو ما يحدث الآن لرجل قاد الرياض إلى نجاحات متتالية حتى أصبحت واحدة من أشهر وأبرز الصحف العربية.
وهذا ما يدفعني إلى التأكيد على أن تكريم الأستاذ تركي بن عبدالله السديري، رئيس تحرير جريدة الرياض، والمدير العام ورئيس مجلس إدارتها ورئيس هيئة الصحفيين السعودية والخليجية سابقًا، هو واجب وحق مستحق يقع على عاتق مؤسسة اليمامة الصحفية، ثم هيئة الصحفيين، فوزارة الثقافة والإعلام.
فلنكرمه بما يستحق في حياته، لأن التكريم والتأبين الذي يتم عادة لكل المبدعين بعد وفاتهم هو تكريم لأهل المتوفى أكثر من كونه تقديرًا حقيقيًا للمكرم.
جزى الله الأستاذ تركي السديري خير الجزاء عن كل جهد بذله وعن كل قطرة عرق سالت من أجل وطنه وأهله خلال عقود حافلة بالعطاء والإخلاص.